الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **
قال ابن إسحاق : وكان بسبس بن عمرو ، وعدي بن أبي الزغباء ، قد مضيا حتى نزلا بدرا ، فأناخا إلى تل قريب من الماء ، ثم أخذا شنَّا لهما يستقيان فيه ، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء . فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحاضر ، وهما يتلازمان على الماء ، والملزومة تقول لصاحبتها : إنما تأتي العير غدا أو بعد غد ، فأعمل لهم ، ثم أقضيك الذي لك . قال مجدي : صدقتِ ، ثم خلَّص بينهما . وسمع ذلك عدي وبسبس ، فجلسا على بعيريهما ، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبراه بما سمعا . و أقبل أبو سفيان بن حرب ، حتى تقدم العير حذرا ، حتى ورد الماء ؛ فقال لمجدي بن عمرو : هل أحسست أحدا ؟ فقال : ما رأيت أحدا أنكره ، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ، ثم استقيا في شن لهما ، ثم انطلقا . فأتى أبو سفيان مُناخهما ، فأخذ من أبعار بعيريهما ، ففتَّه ، فإذا فيه النوى ؛ فقال : هذه والله علائف يثرب . فرجع إلى أصحابه سريعا ، فضرب وجه عيره عن الطريق ، فساحل بها ، وترك بدرا بيسار ، وانطلق حتى أسرع . قال : وأقبلت قريش ، فلما نزلوا الجحفة ، رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبدالمطلب بن عبد مناف رؤيا ، فقال : إني رأيت فيما يرى النائم ، وإني لبين النائم واليقظان . إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف ، ومعه بعير له ؛ ثم قال : قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو الحكم بن هشام ، وأمية بن خلف ، وفلان وفلان ، فعدد رجالا ممن قتل يوم بدر ، من أشراف قريش ، ثم رأيته ضرب في لَبَّة بعيره ، ثم أرسله في العسكر ، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه . قال : فبلغت أبا جهل ؛ فقال : وهذا أيضا نبي آخر من بني المطلب ، سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا . قال ابن إسحاق : ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجاها الله ، فارجعوا ؛ فقال أبو جهل بن هشام : والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان بدر موسما من مواسم العرب ، يجتمع لهم به سوق كل عام - فنقيم عليه ثلاثا ، فننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونُسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها ، فامضوا . وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، وكان حليفا لبني زهرة و هم بالجحفة : يا بني زهرة ، قد نجَّى الله لكم أموالكم ، وخلّص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل ، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله ، فاجعلوا لي جُبْنها وارجعوا ، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة ، لا ما يقول هذا ، يعني أبا جهل . فرجعوا ، فلم يشهدها زُهري واحد ، أطاعوه وكان فيهم مطاعا . ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس ، إلا بني عدي بن كعب ، لم يخرج منهم رجل واحد ، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد ، ومشى القوم . وكان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة ، فقالوا : والله لقد عرفنا يا بني هاشم ، وإن خرجتم معنا ، أن هواكم لمع محمد . فرجع طالب إلى مكة مع من رجع . وقال طالب بن أبي طالب : لاهُمّ إما يغزونّ طالبْ * في عصبة محالف محاربْ في مِقنب من هذه المقانب * فليكن المسلوبَ غير السالب وليكن المغلوب غير الغالب * قال ابن هشام : قوله : ( فليكن المسلوب ) ، وقوله ( وليكن المغلوب ) عن غير واحد من الرواة للشعر . قال ابن إسحاق : ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي ، خلف العقنقل وبطن الوادي ، وهو يَلْيَل ، بين بدر و بين العقنقل ، الكثيب الذي خلفه قريش ، والقُلُب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة . وبعث الله السماء ، وكان الوادي دهسا ، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لبَّد لهم الأرض ، ولم يمنعهم عن السير ، وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبادرهم إلى الماء ، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به . قال ابن إسحاق : فحُدثت عن رجال من بني سلمة ، أنهم ذكروا : أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ، ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، فقال : يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم ، فننزله ، ثم نُغَوِّر ما وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ، ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أشرت بالرأي . فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس ، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب فغورت ، و بنى حوضا على القَليب الذي نزل عليه ، فمُلىء ماء ، ثم قذفوا فيه الآنية . قال ابن إسحاق : فحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدث : أن سعد بن معاذ قال : يا نبي الله ، ألا نبني لك عريشا تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا ، كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى ، جلست على ركائبك ، فلحقت بمن وراءنا ، فقد تخلف عنك أقوام ، يا نبي الله ، ما نحن بأشد لك حبا منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم ، يناصحونك ويجاهدون معك . فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير . ثم بُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش ، فكان فيه . قال ابن إسحاق : وقد ارتحلت قريش حين أصبحت ، فأقبلت ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تَصَوَّب من العقنقل - و هو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي - قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحنهم الغداة . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر - إن يكن في أحد القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا . وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري ، أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري ، بعث إلى قريش ، حين مروا به ، ابنا له بجزائره أهداها لهم ، وقال : إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا . قال : فأرسلوا إليه مع ابنه : أن وصلتك رحم ، قد قضيت الذي عليك ، فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم ، ولئن كنا إنما نقاتل الله ، كما يزعم محمد ، فما لأحد بالله من طاقة . فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوهم . فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل ، إلا ما كان من حكيم بن حزام ، فإنه لم يقتل ، ثم أسلم بعد ذلك ، فحسن إسلامه . فكان إذا اجتهد في يمينه ، قال : لا والذي نجاني من يوم بدر . قال ابن إسحاق : وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم ، عن أشياخ من الأنصار ، قالوا : لما اطمأن القوم ، بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا : احزروا لنا أصحاب محمد ، قال : فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم ، فقال : ثلاث مائة رجل ، يزيدون قليلا أو ينقصون ، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد ؟ قال : فضرب في الوادي حتى أبعد ، فلم ير شيئا ، فرجع إليهم فقال : ما وجدت شيئا ، ولكن قد رأيت ، يا معشر قريش ، البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم ، حتى يقتل رجلا منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ؟ فروا رأيكم . فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس ، فأتى عتبة بن ربيعة ، فقال : يا أبا الوليد ، إنك كبير قريش وسيدها ، والمطاع فيها ، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر ؟ قال : وما ذاك يا حكيم ؟ قال : ترجع بالناس ، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي ؛ قال : قد فعلت ، أنت علي بذلك ، إنما هو حليفي ، فعلي عقله وما أصيب من ماله ، فأت ابن الحنظلية . قال ابن هشام : والحنظلية أم أبي جهل ، وهي أسماء بنت مخُرِّبة ، أحد بني نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره ، يعني أبا جهل بن هشام . ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا ، فقال : يا معشر قريش ، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا ، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه ، قتل ابن عمه أو ابن خاله ، أو رجلا من عشيرته ، فارجعوا و خلوا بين محمد وبين سائر العرب ، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم ، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون . قال حكيم : فانطلقت حتى جئت أبا جهل ، فوجدته قد نثل درعا له من جرابها ، فهو يهنئها . - قال ابن هشام : يهيئها - فقلت له : يا أبا الحكم ، إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا ، للذي قال ؛ فقال : انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه ، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور ، وفيهم ابنه ، فقد تخوفكم عليه . ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي ، فقال : هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثأرك بعينك ، فقم فانشد خفرتك ، ومقتل أخيك . فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ : واعمراه ، واعمراه ، فحميت الحرب ، وحَقِب الناس ، واستوسقوا على ما هم عليه من الشر ، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة . فلما بلغ عتبة قول أبي جهل ( انتفخ والله سحره ) ، قال : سيعلم مُصَفِّر استه من انتفخ سحره ، أنا أم هو ؟ . قال ابن هشام : السَحْر : الرئة وما حولها مما يعلق بالحلقوم من فوق السرة . وما كان تحت السرة ، فهو القُصْب ، ومنه قوله : رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار : قال ابن هشام : حدثني بذلك أبو عبيدة . ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه ، فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته ؛ فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له . قال ابن إسحاق : وقد خرج الأسود بن عبدالأسد المخزومي ، وكان رجلا شرسا سيئ الخلق ، فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم ، أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه ؛ فلما خرج ، خرج إليه حمزة بن عبدالمطلب ، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه ، وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه ، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه ، يريد - زعم - أن يبر يمينه ، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض . قال ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة ، بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة ، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة ، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة ، وهم : عوف ، ومعوذ ، ابنا الحارث - وأمهما عفراء - ورجل آخر ، يقال : هو عبدالله بن رواحة ؛ فقالوا : من أنتم ؟ فقالوا : رهط من الأنصار ؛ قالوا : ما لنا بكم من حاجة . ثم نادى مناديهم : يا محمد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا علي ، فلما قاموا ودنوا منهم ، قالوا : من أنتم ؟ قال عبيدة : عبيدة ، وقال حمزة : حمزة ، وقال علي : علي ؛ قالوا : نعم ، أكفاء كرام . فبارز عبيدة ، وكان أسن القوم ، عتبة بن ربيعة ، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة ؛ وبارز علي الوليد بن عتبة . فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ؛ وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله ؛ واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين ، كلاهما أثبت صاحبه ؛ وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه ، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه . قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة : أن عتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار ، حين انتسبوا : أكفاء كرام ، إنما نريد قومنا . قال ابن إسحاق : ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم ، وقال : إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ، معه أبو بكر الصديق . فكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان . قال ابن إسحاق : كما حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين . قال ابن إسحاق : وحدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر ، وفي يده قدح يعدل به القوم ، فمر بسواد بن غزية ، حليف بن عدي بن النجار - قال ابن هشام : يقال : سوَّاد ؛ مثقلة ؛ وسواد في الأنصار غير هذا ، مخفف - وهو مستنتل من الصف - قال ابن هشام : ويقال : مستنصل من الصف - فطعن في بطنه بالقدح وقال : استو يا سواد ، فقال : يا رسول الله ، أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل ؛ قال : فأقدني . فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه ، وقال : استقد ؛ قال : فاعتنقه فقبل بطنه ؛ فقال : ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال : يا رسول الله ، حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك . فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير ، وقاله له . قال ابن إسحاق : ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ، ورجع إلى العريش فدخله ، ومعه فيه أبو بكر الصديق ، ليس معه فيه غيره ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ، ويقول فيما يقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ، وأبو بكر يقول : يا نبي الله : بعض مناشدتك ربك ، فإن الله منجز لك ما وعدك . وقد خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ، ثم انتبه فقال : أبشر يا أبا بكر ، أتاك نصر الله . هذا جبريل أخذ بعنان فرس يقوده ، على ثناياه النقع . قال ابن إسحاق : وقد رمى مهجع ، مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل ، فكان أول قتيل من المسلمين ؛ ثم رمى حارثة بن سراقة ، أحد بني عدي بن النجار ، وهو يشرب من الحوض ، بسهم فأصاب نحره ، فقتل . قال : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرصهم ، وقال : والذي نفس محمد بيده ، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا ، مقبلا غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة . فقال عمير بن الحُمام أخو بني سلمة ، وفي يده تمرات يأكلهن : بخ بخ ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه ، فقاتل القوم حتى قتل . قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، أن عوف ابن الحارث ، وهو ابن عفراء قال : يا رسول الله ، ما يضحك الرب من عبده ؟ قال : غمسه يده في العدو حاسرا . فنـزع درعا كانت عليه فقذفها ، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل . قال ابن إسحاق : وحدثني محمد ابن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عبدالله بن ثعلبة بن صُعَير العذري ، حليف بني زهرة ، أنه حدثه : لما التقى الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، قال أبو جهل بن هشام : اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا يعرف ، فأحنه الغداة . فكان هو المستفتح . قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل قريشا بها ، ثم قال : شاهت الوجوه ، ثم نضحهم بها ، وأمر أصحابه ، فقال : شدوا ؛ فكانت الهزيمة ، فقتل الله تعالى من قتل من صناديد قريش ، وأسر من أسر من أشرافهم . فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ، وسعد بن معاد قائم على باب العريش ، الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، متوشح السيف ، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخافون عليه كَرَّة العدو ، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم ؛ قال : أجل والله يا رسول الله ، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك ، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك احب إلي من استبقاء الرجال. قال ابن إسحاق : وحدثني العباس بن عبدالله بن معبد ، عن بعض أهله ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ : إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها ، ولا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ، ومن لقي أبا البَخْتَري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله ، فإنه إنما أخرج مستكرها . قال : فقال أبوحذيفة : أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخوتنا وعشيرتنا . ونترك العباس ، والله لئن لقيته لأُلْحِمنَّه السيف - قال ابن هشام : ويقال لأُلْجِمَنه السيف - قال : فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لعمر بن الخطاب : يا أبا حفص - قال عمر : والله إنه لأول يوم كنَّاني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص - أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف ؟ فقال عمر : يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف ، فوالله لقد نافق ، فكان أبو حذيفة يقول : ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفا ، إلا أن تكفرها عني الشهادة ، فقتل يوم اليمامة شهيدا . قال ابن إسحاق : وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أكفَّ القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ، وكان لا يؤذيه ، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه ، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على وبني هاشم وبني المطلب ، فلقيه المجذر بن زياد البلوي ، حليف الأنصار ، ثم من بني سالم بن عوف ، فقال المجذر لأبي البختري : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك - ومع أبي البختري زميل له ، قد خرج معه من مكة ، وهو جنادة بن مُلَيحة بنت زهير بن الحارث بن أسد ؛ وجنادة رجل من بني ليث . واسم أبي البختري : العاص - قال : وزميلي ؟ فقال له المجذر : لا والله ما ، نحن بتاركي زميلك ، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك ، فقال : لا والله ، إذن لأموتن أنا وهو جميعا ، لا تتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة . فقال أبو البختري حين نازله المجذر وأبي إلا القتال ، يرتجز : لن يسلم ابن حرة زميله * حتى يموت أو يرى سبيله فاقتتلا فقتله المجذر بن ذياد . وقال المجذر بن زياد في قتله أبا البختري : إما جهلت أو نسيت نسبي * فأثبت النسبة أني من بَلي الطاعنين برماح اليزني * والضاربين الكبش حتى ينحني بشر بيتم من أبوه البختري * أو بشون بمثلها من بَني أنا الذي يقال أصلي من بلى * أطعن بالصعدة حتى تنثني وأعبط القرن بعضب مشرفي * أرزم للموت كإرزام المري فلا ترى مجذرا يفري فري قال ابن هشام : " المري " عن غير ابن إسحاق . والمري : الناقة التي يستنـزل لبنها على عسر. قال ابن إسحاق : ثم إن المجذر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به ، فأبى إلا أن يقاتلني ، فقاتلته فقتلته . قال ابن هشام : أبو البختري : العاص بن هشام بن الحارث بن أسد .
|